الثلاثاء، 6 مارس 2012

نظام الحكم بين الشريعة والعلمانية د نضال عبد القادر صالح


(ملخص من كتاب المأزق في الفكر الديني بين النص والواقع

صادر عن دار الطليعة بيروت ط 1/ 2006)

الخلاف حول نظام الحكم الذي يجب أن يكون للعالم العربي والإسلامي موضوع حوار ساخن منذ زمن بين دعاة الفكر الديني والسلفي وبين دعاة الحداثة .بين اعتبار الشريعة مصدرا وحيدا للحكم وبين اعتبار النصوص الوضعية مصدرا أساسيا للتشريع .وان كان بعض رموز الفكر الديني يحاولون إيجاد طريقة تلفيقية بالدعوة إلى قبول بعض الوسائل الديمقراطية مثل الانتخابات البرلمانية كوسيلة للوصول إلى الحكم وهذا الاتجاه يوقع نفسه في مأزق ذاتي فهو في الوقت الذي يؤمن فيه بالحاكمية يحاول أن يخرج من الأزمة الحضارية للمجتمعات الإسلامية بصبغ فكره ببعض ألوان الحداثة ولكنه يظل جزءا لا يتجزأ من المنظومة الفكرية السلفية التي تدعو إلى تطبيق الشريعة باعتبارها المصدر الوحيد للحكم وان كان السلفيون هم أكثر صدقا من هؤلاء على الأقل هم صادقون مع أنفسهم وفكرهم.و في الحقيقة لا وجود سوى لطريقين لا ثالث لهما :إما طريق الشريعة أو طريق القوانين الوضعية.

طريق الشريعة :

اعتبار الشريعة مصدرا وحيدا للتشريع في النظام السياسي يوقعنا في تناقضات ويمنعنا من اختيار أو رفض ما يلائمنا وما لا يلائمنا لان الشريعة هي كل لا يتجزأ بغض النظر عن اتجاهاته وألوانه .للأسباب التالية :

· إن بالحاكمية لله وحده وبما أن الله لا ينزل إلى الأرض ليحكم من خلال النصوص الدينية فان الحاكمية تنتقل بدورها إلى حاكمية النصوص الدينية ممثلة بالقران والسنة والسلطة الوحيدة التي أعطت نفسها حق القيام بتفسير هذه النصوص هي السلطة التي يمثلها رموز الفكر الديني أو من يسمون أنفسهم" العلماء " وبهذا فان الحاكمية تنتهي في الحقيقة إلى حاكمية رجال الدين أو القائمين على الفكر الديني .

· سلطة قداسة السلف فالصحابة وتابعوهم كلهم في نظر الفكر الديني إجلاء مكرمون لا يجوز المساس بهم أو نقد سلوكهم وتصرفاتهم وكل ما صدر عنهم من أقوال وأفعال يعتبر متمما للنصوص الدينية الأصلية :القران والسنة.

· الخلافة الإسلامية بمفهومها التاريخي واجبة والخلافة بما فيها الأموية والعباسية هي خلافة إسلامية شرعية.

· صحة أحاديث الرسول المدونة أي المدونة الصحاحية مدونة رسمية مغلقة ومن يشكك فيها أو في بعض منها يخرج عن الملة.

· أزلية النص ألقراني وقدمه .فالنص ألقراني في نظر السلف هو كلام الله القديم وصفة ذاته قديمة أزلية.ولا علاقة بين النص والواقع المخاطب ولا يرتبط إنزاله بالوقائع التاريخية فهو موجود قبل التاريخ البشري .فالآية القرآنية "تبت يدا أبي لهب و تب " مثلا نص قديم أزلي ظهر أو انزل بمناسبة إيذاء أبي لهب لنبينا الأكرم ولم يكن نزوله بسبب ذلك.

بالنتيجة: مبدأ الحاكمية يعني أن التشريع وإصدار القوانين والتحليل والتحريم والأمر والنهي كلها لله وحده وليس لمخلوق سواء أكان فردا أم جماعة أم امة أم شعبا أدنى نوع من أنواع المشاركة في هذه الحقوق.وهذه الحاكمية تعني في التحليل الأخير الاحتكام إلى النصوص الدينية .والسلطة الوحيدة في نظر هذا الفكر القادرة على القيام بمهمة تفسير النصوص واستنباط التشريع اللازم من تحريم وتحليل وأمر ونهي هي السلطة التي يمثلها رموز الفكر الديني أو من يسمون أنفسهم علماء ..أي أن الحاكمية تنتهي في الحقيقة إلى حاكمية نخبة من الرجال سمحت لنفسها بان تنطق باسم الخالق وان تكون ممثلة له على الأرض.ورغم إصرار أنصار هذا الفكر على إنكار الكهنوت أو السلطة المقدسة في الإسلام فان واقع الحال يبين عكس ذلك .فقد تحول رجال الدين إلى طبقة من الكهنوت تدعي امتلاكها الحقيقة الإلهية والحقيقة المطلقة عن الإسلام وهي جاهزة دوما لتجهيل الخصوم وتكفيرهم إن لزم الأمر و لا تقبل الاختلاف في الرأي إلا ما كان في الجزئيات البسيطة .

إذن ف مبدأ الحاكمية يرفض الديمقراطية بصفتها حكم الشعب الذي هو مخالف لحكم الله لان التشريع والتحليل والتحريم والنهي لله وحده الذي له ملك السماوات والأرض وليس لمخلوق سواء كان فردا أو جماعة أو امة أو شعبا أدنى نوع من أنواع المشاركة.و الديمقراطية بهذا المعنى كفر إذ لا سيادة إلا لله وحده.إن النظام الديمقراطي في نظر الفكر الديني ما هو إلا صورة من صور نظام حكم الطاغوت وليصح إيمان إنسان ولا يصح له إسلام إلا إذا كفر بالطاغوت أي كفر بالديمقراطية.وعليه فان لفظ مسلم وديمقراطي لا يجتمعان في شخص واحد أبدا.والحكم الإسلامي يعطي جماعة من المسلمين المؤهلين(أهل الحل والعقد) الحق في أن يضعوا النظم الإدارية التي يرونها أصلح وانفع وأكثر خيرا.

و رغم الاعتراف بان النظام الديمقراطي قد اقر بعدد غير قليل من الحقوق والحريات إلا أن ذلك يعتبر لمع بريق زائف في أعين كثيرين ممن لا يملكون المعرفة الصحيحة بالنظام الديمقراطي وانه من الأمور المنكرة جدا أن نسمع من يقول "أن الديمقراطية من الإسلام" أو من يقول"الديمقراطية الإسلامية" أو ما يشبه ذلك من الأسماء الملفقة من كلمة الحق وهي الإسلام .وباختصار شديد علينا أن ندرك وان نؤمن بأنه "لا ديمقراطية في الإسلام" وان "أصول الديمقراطية وجذورها إنما هي أصول وجذور الحادية كفرية".[1]

طريق القوانين الوضعية أو النظام المدني :ويسمونه أيضا العلماني :هو النظام الذي يدعو إلى فصل الدين عن السياسة وليس إلغاء الدين كما يروجون ..انه رفض الدين كمؤسسة أو رفض مأسسة الدين لان الدين هو إحساس طبيعي فطري في الطبيعة البشرية كما يذهب إلى ذلك اغلب الفلاسفة وعلماء الانثربولوجيا ( انظر أبحاث مرسيا الياد و يونغ ووليم جيمس ورودولف اوتو ...) إذن الدعوة إلى العلمانية ليست لفصل الدين عن الحياة والمجتمع بل لفصل المؤسسة الدينية عن الدولة والحكم ...فلمؤسسة الدينية "كيان مصطنع مفروض على الحياة الدينية وان ظهور هذه المؤسسة وتطورها كان مرهونا بظروف تعقد الحياة الاجتماعية ولم تكن في يوم من الأيام عنصرا لا غنى عنه للدين.المؤسسة الدينية هي ظاهرة جديدة مرتبطة بحضارة المدينة وبمدى تطور البنى والمؤسسات الاجتماعية والسياسية في مجتمع المدينة وهو المجتمع الذي تشكل أول مرة في المشرق العربي القديم ..ومن ناحية أخرى تثبت المصادر التاريخية أن سومر شهدت الارتباط الوثيق والمتزامن بين تطور المؤسسة الدينية وتطور المؤسسة السياسية فقد جمع ملوك سومر بين السلطتين الزمنية والروحية والملك السومري كان يحمل لقب "إن" الذي يعني الملك بالمعنى السياسي والكاهن الأعلى.[2]

العلمانية إذن لا تحارب الدين كعاطفة أو إحساس أو عبادة بل كمؤسسة توظف في ماهو سياسي..وهذا ماقام عليه الفكر التنويري في أوروبا ..فهي تضمن حرية المعتقد بما هي حرية شخصية و أقرت ذلك في مواثيق حقوق الإنسان منذ إعلان الفرنسي 1798 إلى الإعلان العالمي 1948 ..وهي تجمع المؤمن والملحد على حد السواء في نظام سياسي واحد رابط الجمع بينهما هو" المواطنة" .

غير أن العلمانية متى تحولت إلى إيديولوجيا تتحول بدورها إلى دين جديد يؤسس بدوره لنظام شمولي كما في حال بعض الأنظمة الاشتراكية أو القومية التي عادت الدين كعقيدة..وهو ما وقعت فيه بعض الأنظمة العربية التي ادعت العلمانية ...فالاستبداد والقهر عندما يسد منافذ الفكر الحر لا يترك غير منفذ واحد مفتوح هو الهرب إلى الدين والنتيجة أن الاستبداد والقهر وحجز الحريات الفكرية والسياسية هي اكبر خادم للنزعات الدينية الأصولية في المجتمعات العربية.



[1] انظر محمد شاكر الشريف :حقيقة الديمقراطية الرياض دار الوطن للنشر 1412 و عبد المجيد بن محمود الريمي خمسون مفسدة جلية من مفاسد الديمقراطية الرياض دار الغيث 1414 و سيد قطب معالم في الطريق القاهرة مكتبة وهبة 1968 ص 59/81 والإمام الخميني الحكومة الإسلامية بيروت دار الطليعة 1979 ص 91/103.

[2] فراس السواح :دين الإنسان ص 42/43.