الجمعة، 11 أفريل 2008

عالم بلا إسلام :غراهام فولر


عالم بلا إسلام

بقلم * غراهام فولر Graham E. Fuller
ترجمة مختار الخلفاوي

يستمدّ هذا النصّ أهمّيته وراهنيّته من مؤلّفه وموضوعه معًا، فكاتبه غراهام فولر نائب رئيس سابق للمجلس القوميّ للاستعلامات في المخابرات الأمريكيّة. وهو مكلّف بالاستشراف الاستراتيجيّ بعيد المدى. ألف عديد الكتب حول الشرق الأوسط منها " مستقبل الإسلام السياسيّ " 2003. يدرّس الآن التاريخ في إحدى الجامعات الأمريكيّة. أمّا موضوعه فموضوع طريف يستند فيه المؤلّف، معرفيّا، إلى إحدى شعب البحث المعروفة في حقل الدراسات الثقافيّة بإعادة البناء التاريخيّ (Reconstruction historique ). ينطلق المقال من افتراض / تساؤل: كيف كان العالم سيكون وكيف كان سيتطوّر لو لم يظهر فيه الإسلام أو بعبارة أخرى: كيف تكون وضعيّة البشريّة في عالم لم يوجَدْ الإسلام فيه؟ رغبة دفينة أو افتراض تاريخيّ وراء هذه الرحلة إلى الماضي نترك لقرّاء " الأوان " فرصة تفكيك خطابها واستنطاق خلفيّاتها المعرفيّة والسياسيّة، مع رغبة في امتحان أدوات هذه الشعبة البحثيّة ولو على سبيل محاكاة غراهام فولر، في افتراض وجود عالم بلا ( ما تشاؤون من آلهة أو شياطين..)
تصوّروا، إنْ شئتم، عالما بلا إسلام. تلك وضعيّة لا تخطر على بال نظرا للمكانة المركزيّة التي يحتلّها الإسلام في شأننا الجاري. يبدو الإسلام وراء جملة من أعمال الفوضى وسوء الفهم في العالم: عمليّات انتحاريّة، سيّارات مفخّخة، احتلالات عسكريّة، أعمال مقاومة، اضطرابات، فتاوى، جهاد، حرب عصابات، أشرطة فيديو تهديديّة وأخيرا وليس آخرا الحادي عشر من سبتمبر نفسه. يوفّر الإسلام محرارا بسيطا ومباشرا يسمح لنا بأنْ نفهم جيّدا عالم اليوم المضطرب. وبالفعل، فإنّ " الفاشيّة الإسلاميّة "، عند بعض المحافظين الجدد، هي ، الآن، عدوّنا اللّدود في أيّ حرب عالميّة ثالثة محتملة.
ولكنْ اسمحوا لي أنْ أقول: ماذا لو لم يوجدْ شيءٌ مثل الإسلام؟ ولَمْ يُوجَدْ، قطّ، الرسول محمّد ولم ينتشر الإسلام عبر مناطق واسعة من الشرق الأوسط وآسيا وإفريقيا؟ انطلاقا من انشغالنا الراهن حول الإرهاب والحرب والعداء الممتدّ لأمريكا، فإنّه، من الضروريّ، فهم المصادر الحقيقيّة لهذه الأزمات. هل إنّ الإسلام هو مصدر المشكلة أمْ أنّ ذلك المصدر يوجد، في المقابل، طيّ العوامل الأقلّ وضوحا والأكثر عمقا. في إطار حجاجيّ وبجهد في التخيّل التاريخيّ، لنفترضْ صورةً لشرق أوسط لم يظهر فيه الإسلام قطّ. هل سنكون، إذن، قد كُفينا تحدّيات كثيرة تقف أمامنا اليومَ؟ هل سيكون الشرق الأوسط أكثرَ سِلما؟ إلى أيّ حدّ ستكون العلاقات بين الشرق والغرب مختلفة؟ دون إسلام، من الأكيد أنّ النظام العالميّ سيكون في صورة مختلفة جدّا عن مثيلتها اليوم.
لقد أثّر الإسلام تأثيرا واضحا، منذ ظهوره في الشرق الأوسط، في القيم الثقافيّة والاعتبارات السياسيّة لمعتنقيه. فكيف، إذن، يمكن أنْ نفصل الإسلام عن الشرق الأوسط؟ رغم ذلك، ليس من العسير جدّا أنْ نتصوّر.
لنبدأ بالمظهر الإثنيّ. بلا إسلام، سيبقى وجه المنطقة معقّدا مشوّشا. ستواصل الجماعات المسيطرة في الشرق الأوسط كالعرب والفرس والأتراك والأكراد واليهود وكذلك البربر والبشتون سيطرتَها على المشهد السياسيّ. لنأخذ الفرس على سبيل المثال. لقد امتدّت الإمبراطوريات الفارسيّة المتعاقبة، لزمن طويل قبل الإسلام، إلى حدود أبواب أثينا وكان الفرسُ المنافسين الأبديّين على ساكنة الأناضول. وكانت شعوب ساميّة رافضة لهذا التفوّق قد حاربت الفرس في الهلال الخصيب حتّى العراق. ومن بعد، ثمّة القوى القبليّة المختلفة والتجّار العرب ينتشرون ويترحّلون في مناطق ساميّة أخرى من الشرق الأوسط قبل الإسلام[...] الأتراك، أيضا، قد غزوا الأناضول والبلقان إلى حدود فيينا ومنطقة كبيرة من الشرق الأوسط. هذه الصراعات من أجل السلطة والأرض والسيطرة والتجارة كانت موجودة طبعا قبل ظهور الإسلام. بيد أنّه يبدو اعتباطيّا استبعاد الدين نهائيّا من المعادلة. فالحقّ أنّه، لو لم يظهر الإسلام أصلاً، لبقيَ القسم الأكبر من الشرق الأوسط بالأساس مسيحيّا بمختلف طوائفه كما كان الحال في فجر الإسلام، ذلك أنّه باستثناء قلّة من المجوس وعدد ضئيل من اليهود لم تكن هناك ديانة كبرى موجودة.
فهل كان التوافق مع الغرب سيسود لو بقي الشرق الأوسط مسيحيّا؟ هذا استنتاج مبالغ فيه [...] كانت راية المسيحيّة، في العصر الوسيط، إلى كونها رمزا قويّا، إعلانا تعبويًّا لتحقيق المتطلّبات الدنيويّة للأوروبيّين الأقوياء. لم يكن دين سكّان الشرق في صدارة الدوافع إلى التوسع الإمبراطوريّ للغرب على هذه المنطقة. لقد استطاعت أوروبّا، بطريقة نموذجيّة، أنْ تحمل القيم المسيحيّة لأهل الشرق. ولكنّ الهدف الرئيسيّ كان استيعاب مراكز متقدّمة للاستعمار مصادرَ لثراء الوطن الأمّ وقواعد لتوسّع النفوذ الغربيّ. وعلى هذا، فممّا لا يصدّق أنَّ نصارى الشرق قد تقبّلوا بارتياح زحف الجيوش الأوروبيّة، إذْ لعبت الإمبرياليّة على الفسيفساء الإثنيّة المركّبة في المنطقة وفق السياسة الأثيرة: فرّق تسدْ.[...] هل كانت دول الشرق الأوسط، لو كانت مسيحيّةً، ستقبل ببسط الحماية الأوروبيّة على المنطقة؟ لا نظنّ ذلك، بكلّ تأكيد ... فلم يكن الإسلام هو الذي جعل دول الشرق الأوسط تقاوم بشدّة المشروع الاستعماريّ وتقاوم رسمَه للحدود الجديدة وفق الاعتبارات الجيوسياسيّة الأوروبيّة. ولم تكنْ تلك الدول المسيحيّة الشرق أوسطيّة المفترضةُ لتحسن قَبول الشركات البتروليّة الغربيّة العابرة للقارّات معزّزةً بموظّفين أوروبييّن ودبلوماسيين وأعوان مخابرات وجيوش أكثر ممّا فعل المسلمون[...] سيكون الشرق الأوسط، دوما، مؤهّلا لإفراز حركات قوميّة ضدّ الاستعمار لانتزاع السيطرة على أراضيها وأسواقها وسيادتها، تماما كما في حركات المقاومة ضدّ الاستعمار في الهند الهندوسيّة والصين الكونفشيوسيّة وفيتنام البوذيّة وإفريقيا المسيحيّة والوثنيّة. وبالتأكيد، سيجد الفرنسيّون أنفسهم يبسطون نفوذهم على الجزائر المسيحيّة لاستغلال خيرات أراضيها الفلاحيّة وإقامة مستعمرة هناك. وكذلك الإيطاليّون، لم تمنعهم مسيحيّة إثيوبيا من أنْ يحوّلوها إلى مستعمرة يسوسونها بالحديد والنار. باختصار، ليس ثمّة سبب لكيْ نعتقد أنّ ردّ الفعل الشرق الأوسطيّ على العدوان الاستعماريّ الأوروبيّ سيتغيّر تغيّرا ذا بال عن الكيفيّة التي كان عليها بالفعل تحت الإسلام.
ولكنْ، ألن يكون الشرق الأوسط أكثر ديمقراطيّة بلا إسلام؟
إنّ تاريخ الديكتاتوريّات في أوروبّا نفسها لا يدعم هذا الافتراض. فلم تتخلّص إسبانيا والبرتغال من ديكتاتوريّتيهما العنيفتيْن إلاّ في أواسط السبعينات. ولم تتحرّر اليونان من ديكتاتوريّة مرتبطة بالكنيسة إلاّ منذ عشرات السنين. أمّا روسيا المسيحيّة فلم تخرج بعدُ من الديكتاتوريّة. بل مازالت أمريكا اللاتينيّة إلى الآن واقعة تحت ديكتاتوريين يمارسون سلطتهم، في الأغلب، بحماية من الولايات المتّحدة وبشراكة مع الكنيسة الكاثوليكيّة. وأغلب الشعوب الإفريقيّة المسيحيّة لم تحقّق نجاحا أفضل في هذا المجال. فلِم يكون شرق أوسط مسيحيّ مفترضٌ حالةً مغايرةً؟
ثمّة، أيضا، فلسطين. فلقد كان المسيحيّون هم الذين، بلا شكّ، قتّلوا اليهود لما يزيد عن ألف عام وسمت بالهولوكوست. إنّ تلك الأمثلة المفزعة من معادة الساميّة كانت متجذّرة في الثقافة المسيحيّة والبرّ الغربيّ خاصّة. كان اليهود سيواصلون البحث عن وطن خارج أوروبّا. وكانت الحركة الصهيونيّة ستظهر، في كلّ الأحوال، وتبحث عن أرض لها في فلسطين. وكانت دولة إسرائيل اليهوديّة الجديدة ستقتلع 750 ألف عربيّ من السكّان الأصلييّن الفلسطينييّن من أراضيهم وإنْ كانوا مسيحييّن ( وبالفعل فقسم من هؤلاء المهجرين الفعليّين هم كذلك). ألم يقاتل هؤلاء العرب المسيحيّون للدفاع عن وطنهم أو استرداد أراضيهم؟ إنّ الصراع الإسرائيليّ الفلسطينيّ يبقى، في أساسه، مشكلة قوميّة إثنيّة وجغرافيّة مغلّفة، أخيرا، بشعارات دينيّة وحسْبُ. ولا ننس أنّ المسيحييّن العرب كان لهم الدور الرئيس في بدايات الحركة القوميّة العربيّة في الشرق الأوسط. وبالفعل، فلقد كان مؤسّسُ أوّل حزب عروبيّ (البعث) ميشيل عفلق مسيحيّا سوريًّا درسَ في السوربون.
[ ...] إنّ سوء التفاهم بين الشرق والغرب، في ظلّ شرق أوسط مسيحيّ مفترض، يبقى قائما كما هو الآن بالفعل. [...] إذْ تختلف ثقافة الكنيسة الأورتودكسيّة، بوضوح، عن فلسفة الأنوار الغربيّة التي تؤكّد اللائكية والرأسماليّة وقيمة الفرد. لهذه الكنيسة مخاوف من الغرب شبيهة بشتّى مظاهر الارتياب التي يبديها مسلمو اليوم [...]. وبالفعل، ففي شرق أوسط مسيحيّ أوروتدكسيّ تكون روسيا اللّاعب الأوّل والأساسيّ باعتبارها آخر مركز مهمّ للكنيسة الأورتودكسيّة الشرقيّة. سيكون، عندها، العالم الأورتودكسيّ مجالا جيوسياسيّا مفتاحا للمنافسة بين الشرق والغرب في الحرب الباردة. وبسبب من هذا الاعتبار، أدرج صمويل هنتغتون العالم المسيحيّ الأورتودكسيّ ضمن الحضارات العديدة المعنيّة بالصدام الثقافيّ مع الغرب.
لن يكون الاحتلال الأمريكيّ للعراق، اليوم، أفضل تقبّلا لو كان العراقيّون مسيحيّين. فلم تعمد الولايات المتّحدة إلى عزل صدّام حسين، وهو زعيم لائكي وقوميّ، لأنّه كان مسلمًا. ستساند شعوب عربيّة أخرى العرب العراقيّين في مقاومة المحتلّ. لن يقبل أحدٌ، في أيّ مكان، أنْ يُحْتلّ بلده ويقتل بنو وطنه بأيدي قوّات أجنبيّة. كلّما قدّرت مجموعات أنّها مهدّدة من قوى خارجيّة التجأت، دائما، إلى العثور على أيديولوجيّات مناسبة لتثمين نضالها المقاوم. والدين واحد من تلك الأيديولوجيّات.
هذا هو المشهد الافتراضيّ لـ" عالم بلا إسلام ". إنّه شرق أوسط تسيطر عليه المسيحيّة الأورتدكسيّة الشرقيّة وهي كنيسة كانت، تاريخيّا وسيكولوجيّا، حذرة تجاه الغرب، إنْ لم نقل معادية.[...]
تحت راية الرسول: على أنّه من العبث أنْ يقال إنّ وجود الإسلام لم يكن له تأثير مستقلّ في الشرق الأوسط أو في العلاقات بين الشرق والغرب. أنشأ الإسلام، بوصفه ديانة كونيّة، حضارة ممتدّة تقوم على قواسم مشتركة فلسفيّا وفنّيا واجتماعيّا وأنشأ رؤية لحياة روحيّة ومعنى للعدالة والحقّ ونظام الحكم ليمتزج كلّ ذلك في ثقافة متميّزة متجذّرة [...] لقد أثّر الإسلام، أيضا، في الجغرافيا السياسيّة: لو لم يكن الإسلام، لكانت الدول الإسلاميّة في جنوب آسيا وجنوبها الشرقيّ وخاصّة باكستان وبنغلاديش وماليزيا وإندونيسيا منصهرة في العالم الهنديّ. لقد مثّلت الحضارة الإسلاميّة مثالا موحّدا يمكن أنْ يمثّل دعوة لكلّ المسلمين إلى مقاومة الجور الغربيّ. ورغم أنّ هذه الدعوة فشلت في إيقاف المدّ الإمبراطوريّ الغربيّ، فإنّها خلقت ذاكرة ثقافيّة لِقَدَرٍ مشترك لا يمّحي. [...]
في عالم بلا إسلام ستكون مهمّة الامبرياليّة الغربيّة لتـجزئة الشرق الأوسط وآسيا وغزوهما والسيطرة عليهما أكثر يُسْرًا. لن تكون هناك ذاكرة ثقافيّة جماعيّة من المهانة والهزيمة عبر منطقة شاسعة من العالم. ذلك هو السبب الجوهريّ الذي يفسّر لِمَ تتكسّر شوكة الولايات المتّحدة على جدار العالم الإسلاميّ. اليوم، خلقت وسائط الاتّصال المعولمة والصورُ عبر الأقمار الصناعيّة المتبادلة وعيا ذاتيّا قويّا لدى المسلمين وشعورا بحصار غربيّ على ثقافة إسلاميّة مشتركة. هذا الحصار لا يعني الحداثة، ولكنّه يعني محاولات الغرب التي لا تكفّ للسيطرة على الفضاء الإستراتيجيّ والثروات وعلى ثقافة العالم الإسلاميّ أيضا. وللأسف، تظنّ الولايات المتّحدة، بسذاجة، أنّ الإسلام هو ما يقف في طريقها المؤدّي إلى إنشاء شرق أوسط موال للأمريكان.
ولكنْ ماذا عن الإرهاب، القضيّة الأكثر إلحاحا التي ينسبها الغرب آليّا إلى الإسلام؟ بصراحة، هل كان الحادي عشر من سبتمبر سيحدثُ بلا إسلام؟ لو رَبِيَتْ مظالم الشرق الأوسط التي تجذّرت في سنوات الغضب الانفعاليّ والسياسيّ ضدّ أفعال أمريكا وسياساتها تحت راية أخرى، هل كانت الأمور ستختلف اختلافا بيّنا؟ [...]
إنّ الحادي عشر من سبتمبر لم يكن بداية التاريخ. فبالنسبة إلى قراصنة الجوّ من جماعة القاعدة، يمثّل الإسلام مجهرا في الشمس يلمّ تلك المظالمَ الجماعيّة الممتدّة والمشتركة ويكثّفها في شعاع حادّ في لحظةِ وضوح حيال غازٍ أجنبيّ. في تركيز الغرب على إسلاميّة الإرهاب تبدو الذاكرة قصيرة. فلقد كانت العصابات اليهوديّة تلجأ إلى الإرهاب ضدّ البريطانييّن في فلسطين. واخترع نمور التاميل " فنّ " الأحزمة الناسفة، وقادوا العالم، لأكثر من عقد، في دوّامة عمليّات انتحاريّة أحدُ ضحاياها الوزير الأوّل الهنديّ راجيف غاندي. وقام الإرهابيّون اليونان بعمليّات قتل ضدّ الضبّاط الأمريكيّين في أثينا. وقتل إرهاب السّيخ المنظّم أنديرا غاندي وزرع الفوضى في الهند، وأقام له قاعدة خارجيّة في كندا، وفجّر طائرة الخطوط الهنديّة فوق المحيط الأطلسيّ. وكان الإرهابيّون المقدونيّون محلّ خشية واسعة على طول البلقان عشيّةَ الحرب العالميّة الأولى. عشراتُ المجازر الكبرى في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين قام بها ثوّار فوضويّون أوروبّيون وأمريكيّون زرعت الرعب الشامل. جيش التحرير الأيرلندي (الإيرا) ظل يطوّرُ إرهابا عنيفا فظيعا ضدّ البريطانيّين طيلة عقود، تماما كما فعل محاربو العصابات الشيوعيّون والإرهابيّون في فيتنام ضدّ الأمريكيّين وما فعل الشيوعيّون المالاويون ضدّ الجنود البريطانيّين سنوات الخمسينات وما فعله الإرهابيّون الماو ماو ضدّ الضبّاط البريطانيّين في كينيا والقائمة تطول. [...]
بل إنّ تاريخ النشاط الإرهابيّ الحاليّ ليس مختلفا اختلافا بيّنا. وفق أرقام أوروبول Europol حصلت في الاتّحاد الأوروبيّ 498 هجمة إرهابيّة سنة 2006. بينها 424 هجمة قامت بها مجموعات انفصاليّة و55 هجمة قام بها متطرّفون يساريّون و18 هجمة قام بها إرهابيّون مختلفون. ثمّة عمليّة واحدة قام بها إسلاميّون. وللدقّة، فقد أُحْبِط عدد من الهجمات أعدّ لها بعضٌ من أفراد الجاليات المسلمة الشديدة المراقبة.[...] فإذا كان الإسلام يرفض الحداثة فلِم انتظر الحادي عشر من سبتمبر لكيْ يعلنُ الهجوم. ولِمَ تحدّث مفكّرون إسلاميّون كبارٌ في بداية القرن العشرين عن الحاجة إلى تبنّي الحداثة مع المحافظة على الثقافة الإسلاميّة. ( يبدو أنّ الهاجس السياسيّ والاستراتيجيّ يغلب على المؤلّف أحيانا فيغفل تناقضات من طبيعة إبستيميّة- المترجم ). لم تكن قضيّة أسامة بن لادن، في أوّل أمره، تتوجّه إلى الحداثة البتّةَ. لقد تكلّم عن فلسطين وعن أقدام الجنود الأمريكيّين على الأرض السعوديّة وعلى حكّام السعوديّة بتوجيه الولايات المتّحدة وعن حروب صليبيّة حديثة. إنّه لمِن المثير أنّه كان لا بدّ من انتظار 2001 لمعاينة أولى مظاهر غليان الغضب الإسلاميّ على أرض الولايات المتّحدة في ردّ فعل على سياسة أمريكا وعلى أحداث متراكمة تاريخيّة وآنيّة. لو لم يكن 9 / 11 لكان يومٌ نظيرٌ غيره قد حدث، لا محالة. بل لو لم يوجد الإسلامُ عاملا موجّها للمقاومة لكانت الماركسيّة قد صنعت الأمر ذاته. إنّها أيديولوجيّة قد نسَلَتْ عددا لا يحصى من الإرهابيّين والعصابات وحركات التحرّر الوطنيّ. وحتّى نقتصر على بعض هذه الجماعات في الغرب فحسب، نشير إلى أنّ الماركسيّةَ قد طبعت الإيتا الباسكيّة والفارك FARC في كولومبيا والدرب المنير في البيرو وعصابة الجيش الأحمر في أوروبّا.[...]
يفتّش الصامدون أمام العدوان الأجنبيّ عن رايات ليروّجوا من خلالها قضيّة كفاحهم ويمجّدوها. قدّمت أمميّةُ صراع الطبقات عنصرا تعبويّا مهمّا. وقدّمت القوميّة ما هو أفضل. ولكنّ الدين يقدّم الأفضل باستثارته للطاقات القصيّة من أجل الدفاع عن القضيّة. [...] نحن نعيش زمنا الإرهاب فيه هو سلاح الضعيف. هذا الإرهاب الذي يلتفّ، بلا سابق، على قوّة الجيوش الأمريكيّة في العراق وأفغانستان وغيرهما. ولهذا، عُدّ بن لادن، في كثير من المجتمعات غير المسلمة، " تشي غيفارا القادم ". وليس ذلك إلاّ بفعل الجاذبيّة التي تشيعها مقاومة ناجحة ضدّ النفوذ الأمريكيّ المهيمن أو الضعيف حين يعكس الهجوم. تلك الجاذبيّة تتجاوز الإسلام أو الثقافة في الشرق الأوسط.
بيد أنّ الأسئلة تبقى. هل سيكون العالم أكثر سلمًا لو لم يوجد الإسلام؟ أمام هذا التوتّر بيْن الشرق والغرب يزيد الإسلام، بلا ريب، عنصرا انفعاليّا إضافيّا أو طبقة إضافيّة من التعقيدات في طريق البحث عن حلول. وإنّه من السهل التنقير في القرآن عن آيات أو شواهد تبدو كأنّها تجيب عنْ سؤال: لِم يكرهوننا؟ ولكنّ ذلك التنقير يزيغ عن طبيعة الظاهرة. كم هو مريحٌ أنْ يقع تحديد الإسلام على أنّه مصدرُ "المشكلة". ذلك، بكلّ تأكيد، أكثرُ يسرًا من الفحص عن آثار البصمة الضخمة للقوّة العظمى الوحيدة في العالم. إنّ عالَما بلا إسلام سيشهد، دوما، التهديدات والتهديدات الإرهابيّة المضادّة حيث تسود الحروب والمآسي المشهد الجيوسياسيّ. لو لم يكن الدين، لكانت تلك الجماعات ستجد رايات أخرى تعبّر في ظلّها عن وطنيّتها وعن سعيها إلى الاستقلال. طبعا، لن يكون للتاريخ المسار ذاته الذي سلكه بالتدقيق. ولكنْ، في العمق، فإنّ الأزمة بين الشرق والغرب تبقى دائما قائمة حول المسائل التاريخيّة والجيوسياسيّة الكبرى للتاريخ البشريّ: الإثنيّة، القوميّة، الطموح، الجشع، الثروة، الحكّام المحلّيين، منطقة النفوذ، الربح المادّيّ، السلطة، التدخّل الأجنبيّ وكره ذلك، الغزاة والإمبرياليين. في مواجهة أسئلة مزمنة كهذه، كيف لا يُسْتدعى سلطانُ الدين؟ لنتذكّر، أيضا، أنّ الأهوال الرئيسيّة في القرن العشرين، عمليّا، قد جاءت، حصرًا، من الأنظمة اللائكية الصريحة: ليوبولد بلجيكا الثاني في الكونغو، هتلر، موسوليني، لينين وستالين، ماو وبول بوت. ثمّ إنّ الأوروبّيين هم الذين فرضوا على سائر العالم حربيْهم العالميّتيْن. وهاتان كانتا أزمتيْن كونيّتيْن مدمّرتيْن بلا نظير موازٍ في التاريخ الإسلاميّ.
يمكن للبعض، اليوم، أنْ يتمنّى " عالما بلا إسلام " لم تحدثْ فيه، قطّ، هذه المشاكل. ولكنْ، في الحقيقة، فإنّ الصراعات والمنافسات والأزمات في عالم كذاك قد لا تبدو مختلفةً اختلافا بيّنًا عمّا نعرفه اليومَ.

* المقال عن المجلّة الأمريكيّة المتخصّصة www.foreignpolicy.com في عددها الأخير (جانفي / فيفري 2008). واستأنسنا بالترجمة الفرنسيّة الصادرة في elkhadra.Over-blog.

هناك تعليق واحد:

Big Trap Boy يقول...

شكرا على نشر المقال

بالفعل فيه ما يدعو إلى مراجعة بعض الأفكار والبديهيّات