الأربعاء، 30 أفريل 2008

تلك الطريقة التونسية في... تقصي الشخص!: بقلم اولاد احمد



** "امنعوا هذا الرأس من التفكير لمدة ... عشرين سنة "
(موسيليني.. متحدثا عن المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي)

** "لست الفم المناسب لهذه الآذان. هل يتعيّن قطعها حتى يتدرّب الناس على السماع بأعينهم؟! "
فريدريك نيتشه


منذ أن دمّر سيبيون الروماني قرطاج بقوانينها ومجلس شيوخها وأحرق مسارحها وأسواقها ومزق شعور نسائها المطلوقة حتى كعب الساقين ـ وهذا ما لم يشأ القائد القرطاجنيّ حنبعل أن يفعله بروما مبقيا ـ بذلك ـ على عمرانها وعلى مدنيتها، منذ تلك الواقعة والموت هو المقترح الوحيد على الشعب التونسي الذي أنتمي إليه وأعمل على أن أكون شاعره وناثره في غياب كتاب يقبلون بأداء هذه المهمة دون أن يكونوا خدما موسميين لهذا الربّ أو ذاك من آلهة العروش والقصور والمناهج والقبور.
ـ الإسلام أو الموت !
ـ الإستحمار العثمانيّ أو الموت !
ـ الاستعمار الفرنسي أو الموت !
ـ الدولة المستقلة... الحزب الواحد أو الموت !
حتى أحزاب المعارضة، الحديثة النشأة، فإنها ـ مثلها مثل الشعر العموديّ ـ لا تقترح غير الرديء على هذا الشعب سواء في شكلها الليبرالي المتوحّش أو الأصولي المتصحر أو الستاليني المتجمّد!.
وقد كانت كل هذه الأشكال من الميتات المقترحة متسامحة بقدر ما كانت خزائنها في حاجة إلى مثل ذلك التسامح، ممّا جعل الشعب التونسي ـ من فرط الضرائب والخطايا والأتاوى والرشاوى ـ ينمّي كرها سرّيا وولاء ظاهريا للحكّام الذين كانوا يعاملونه وكأنّه شعب يسكن الأرض التونسيّة على وجه السّلفة والكراء وربّما على وجه اللجوء والهجرة غير الشرعية وليس كشعب أصيل استطاع، بقوة الحيلة والصبر، أن يكون خلاصة مسالمة لكل الأساطير والديانات والثقافات والحضارات المتعاقبة على أرضه: أرض أهدت اسمها لقارّة بكاملها: إفريقيا، وكأنها تعوض عن ضيق مساحتها وقلّة مواردها الطبيعية بطموح إمبراطوريّ ذهب مع الريح ...وإلى الأبد.
أرض " إذا أراد الله أن يقسم ظهر جبّار أرسله حاكما عليها" كما جاء في الأخبار القديمة.
أرض لا مناص من أن " ييأس الشاعر من مشاريعها" والكلام لأبي القاسم الشابي ولبيرم التونسي، أيضا، وهما يتشكّيان من معاصريهما خلال النصف الأول من القرن العشرين.
2 ـ
في هذه الأجواء المشحونة بالريبة والخوف وبالاحتقار والمتبادل بين السادة المغيرين على الحرّية وبين العبيد الخائفين من التحرر نشأتُ.
ومن حسن الحظ أن كان لي أبٌ يحسن تصريف الحديث على وجوه مستطرفة مفارقة جعلت منه نجم تلك البوادي المنذورة للنسيان في وسط الجنوب التونسي خلال الثلثين الأولين من القرن العشرين.
كان لي أب وثلاث أمّهات على وجه الدقّة وفي نفس الوقت ! وتلك مسألة على علاقة باسمي الطويل:
محمّد الصغير أولاد أحمد بن علي. " مفرد بصيغة الجمع" على حد تعبير أدونيس.
اسم مسيّج بجميع أنواع السّلط الروحية والقبلية والسياسيّة والبوليسية.
اسم بإمكان حامله، حين يصطفّ الناس، أن يصطفّ بمفرده ! !

من بين الشعارات الكثيرة المحرّضة على منازلة الموت اليومي اخترت " أن أعيش يوما إضافيّا كيدا للعدوّ" على حد تعبير ناظم حكمت، وأن أضحّي بالعقائد والقيم البالية من أجل أن يكون الإنسان سيّد نفسه ومصيره اعتقادا منّي أنّ الحرّية شرط لا يمكن التفاوض حول مدى أحقّية الإنسان به وأنّ الحياة الكريمة أهمّ من الشعر ذاته.. إذا كان لا بد من خيار. " الشعراء هم رؤساء جمهورية الحلم" هكذا كان يردد الشاعر الفرنسي لويس أراغون.
لتنفيذ هذه الخطة وتنزيل ذلك الشعار تخيّرت ، مثل آخرين في الوطن العربي، حلولا غير مسلحة ظانّا أنّها لن تزعج أحدا:
أقلاما ملوّنة
أوراقا بيضاء
وجيشا من العواطف الحارّة
ووصلت الليل بالنهار أدفع بالمعاني إلى أقصاها وبالناس إلى المطالبة بحقوقهم على الفور وعلى عين المكان:
الريح آتية
وبيوتهم قش
والكفّ عالية
وزجاجهم هش
لا تحزنوا أبدا
يا إخوتي أبدا
إن شردوا طيرا
...يمضي له العش
كنت أخاطب الحاكم المستبدّ على مرأى من عساكره ومخبريه وشعرائه ونقّاده وجامعيّيه وأتّهمه ـ صراحة ـ بتقليص معدّل أعمار التونسيين إلى رئيسيْن فقط... بحساب رئيس كل ثلاثين سنة وكان الحاكم الموالي من قلّة الأمانة العلميّة، بحيث لم يشعر بالحاجة وهو يطيح بالحاكم الأوّل إلى تثبيت تهمتي تلك في قائمة مراجعه ولو أنه فعل لأضفى شرعيّة شعريّة على فعلته الليليّة تلك.
-" أمور دُبّرت بليل" : تلك هي آليات الوصول إلى السلطة عند العرب وذلك هو زمن الشعر... على ما يبدو ! !
ـ الشعر المستيقظ بطبيعة الحال.

بعد مصادرة مجموعتي الشعريّة الأولى : نشيد الأيام الستّة " (1984ـ1988) وإعدام ثلاثة آلاف نسخة منه بآلات حديديّة وقع استيرادها خصّيصا للغرض، ودخولي السجن لفترات قصيرة متباعدة ولأسباب لا يمكنها أن تجعل منّي بطلا في كل الأحوال، وطردي من العمل لمدّة خمس سنوات بكاملها (1987ـ1992) وعودتي له دون اعتذارات أو تعويضات، وتأسيسي لبيت الشعر التونسيّ (1993ـ1997) وخروجي منه إلى ما يشبه الإقامة الجبريّة الخالصة الأجر بسبب اختلافي مع الدولة حول كيفية إدارة هذه المؤسّسة.
بعد كلّ ذلك وما صاحبه من آلام وتشرّد وشهرة بطبيعة الحال، انتبهت إلى أن الورقة البيضاء ما هي إلا صورة لزنزانة بمقاييس مصغّرة وإلى أنّ القلم هو حارس السجن ذاته.
وفيما كنت أعتقد أنّ اللغة هي وسيلة الشاعر لإنتاج الشعر دلّني أحد النقاد الرّوس إلى أنّ الجسد هو وسيلة الشاعر الحقيقية لتحويل اللّغة إلى شعر. والحقيقة أن هذا التأصيل لحدّي المعادلة الشعرية صادف هوى في نفسي لكونه تكثيفا نظريا لما كنت أمارسه منذ الطفولة في البادية، من ناحية، ومتّسقا مع ما كانت العرب تقوله حول الشاعر الصادق المُجيد.
ـ " هذا الشاعر ينحت من جسده وسيموت صغيرا"
وهو يقول يتطابق مع قول آخر للمتنبي وإن كان قد قيل في سياق آخر:
كفى بجسمي نحولا أنّني رجل
لولا مخاطبتي إياك... لم ترني
5 –
لم لا يكون الجسد قلما ؟
والأرض ـ بما فيها ومن عليها ـ ورقة بيضاء؟
والحركة أسلوبا للذات في أداء الشعر والحياة معا ؟
عندما نجيب على مثل هذه الأسئلة فإننا لا نفعل شيئا آخر غير تحديد ماهية الشعر التي ظلت هلامية في مجمل أدبيات النقاد والباحثين ولم يزدها النقد الحديث سوى المزيد من زبد البلاغة.
قليلون هم النقّاد والشعراء في كل العصور:
يأتي ناقد متبصّر فيحول وجهة الشعر، ويأتي شاعر فذ ّ فيحول وجهة النقد ..النقد وقد أصبح قراءة وإعادة قراءة من قبل القارئ.
وفي انتظار أن يتوافق الشعراء والنقاد يبقى الشعراء أقرب ـ دائماـ إلى إخبارنا عن نشوء القصد والقصيدة وعن أسرار المؤاخاة بين الحروف والأصوات والصور والمعاني.
قال عبد الملك لعدي ابن أرطأة: " لم لا تقول الشعر ؟ فقال: كيف أقوله وأنا لا أشرب ولا أطرب ولا أغضب".
قال الحجاج لمساور ابن هند : لم تقول الشعر؟ فأجاب " أسقي به الماء وأرعى به الكلأ "

هو لا يزال يسميني شاعره
وأنا لا أزال أدعوه شعبي المستحيل نهارا والممكن ليلا
في أشدّ اللحظات قتامة ـ حين تكافئ الدولة عساكرها بنزهة مسلحة في الشوارع والمعامل والبيوت والجامعات قصد التذكير بهيبتها (وهذا يحصل مرة كل عقد تقريبا) يجدني إلى جانبه أعمل الإيقاع في شعاراته وأروّج لانتصاراته الفجئية، ثم أعدّ قتلاه رافعا إياهم إلى مراتب الشهداء والقديسين دون اكتراث بتهمة المبالغة أو المحلّية.
لقد أصبحت أعرف ـ بالتجربة ـ أن شهداء الاستقلال أكثر عددا من شهداء الاستعمار وهذا يعني، في جملة ما يعني، أن وظيفة الشاعر في بلد مستقلّ أكثر وزرا من وظيفة شاعر في بلد محتلّ أو في طريقه إلى الاحتلال.

(المصدر: موقع "الأوان" بتاريخ 27 أفريل 2008)

هناك 3 تعليقات:

Big Trap Boy يقول...

نص رائع بدون أيّة مبالغة

شكرا على النشر

baz2x1 يقول...

bravo

عاشور الناجي يقول...

يها المؤمنون أيتها المؤمنات


جائني إيميل من سيدنا جبريل أستحلفكم أن تقرؤوه



http://exmouslem.blogspot.com/2008/04/blog-post_30.html



ألا هل بلغت ؟


اللهم فاشهد