الخميس، 29 ماي 2008

معركة برج دوز 29/05/1944 : تمرد "نظاميين" أم هبّة "قبلية" ؟ج2


الجزء الثاني

- منتفضو 1943- 1944 بمنطقة نفزاوة : "ثوار"، "مجاهدون" أم "متمردون" و"خارجون عن القانون" ؟ :

سعى "دهاقنة الاستعمار" بكل جهد إلى استهجان نشاط رجال المقاومة المسحلة في الأرياف والبوادي التونسية خلال الفترة الاستعمارية. وذلك قصد تشويه صورتهم إذ "كانوا يجدلون في ضفيرة واحدة اللصوص الآثمين والقتلة وأرباب الشرّ وقطاع الطرق إلخ... مع المتمردين والثائرين الرافضين لقوانينهم وسياستهم..."[1] وبخصوص انتفاضة المرازيق (1943-1944) موضوع اهتمامنا، رصدنا من خلال المصادر والوثائق الفرنسية التي تمكنا من تقميشها ألفاظا ومصطلحات استعملت من طرف ممثلي الإدارة الاستعمارية كانت كلها تنتهي في مصب واحد قوامه تشويه صورة المنتفضين. من أهم هذه المصطلحات الواردة بكثرة نذكر :

- "الجياشة" "Les Djicheurs" [2] وهم الذين يغيرون على أرزاق الناس وينهبونها باستعمال السلاح. وهم أيضا أولئك المسلحين الذين ساندوا قوات المحور خلال حضورها بمنطقة نفزاوة (8 ديسمبر 1942- أواخر مارس 1943).

- "متمردون، عصاة" "Révoltés [3] والمقصود هنا تمرد المخازنية و"القومية" الذي تحول بمرور الوقت إلى تمرد "قبلي".

- "قاطع طريق" أو "لص مسلح" "Bandit" وهو الشخص الذي يمارس "اللصوصية"[4].

- "خارجون عن القانون"[5] "hors la loi" وهم أولئك الأشخاص الذين لا يخضعون لنواميس السلطة وضوابطها.

- الفلاقة "Fellagas" وهي أكثر الألفاط المتداولة في المصادر الفرنسية ويستعملها ممثلي الإدارة الإستعمارية لإختزال كل المصطلحات والألفاظ التي أوردناها[6].

أما المصادر الأهلية فإنها تتعرض إلى هؤلاء المنتفضين عبر تسميات مختلفة : "فهم في الأعم الأغلب" "مجاهدون" وأحيانا "ثوار" وأحيانا أخرى "فلاقة"[7] والسؤال المطروح الآن وقد استعرضنا مختلف التسميات التي اطلقت على منتفضي 1943-1944 بجهة نفزاوة في المصادر الفرنسية والأهلية : أين نصنف أفراد هذه الحركة المسلحة ؟

إن هذه النعوت والأوصاف التي ألصقها الضباط الفرنسيون بهؤلاء المنتفضين تجعل منهم "أشرارا خطيرين" ليس تجاه رموز الإدارة الاستعمارية فحسب بل أيضا تجاه الأهالي. ولكن المتتبع والمتفحص لأطوار إنتفاضة المرازيق 1943-1944 يستنتج بجلاء بطلان وزيف هذه النعوت "المستهجنة" أو قل هذه التهم التي ألصقت بأشخاص همهم الوحيد رفض الظلم والإهانات الاستعمارية والقبضة الحديدية المفروضة على أهالي "التراب العسكري".

وفي إطار قراءة سريعة لنشاط هؤلاء المنتفضين نورد الملاحظات التالية :

- لم نقف ونحن ندرس حيثيات الانتفاضة على مؤشرات مفادها أن أفراد هذه الانتفاضة قد ألحقوا ضررا بالأهالي. بل ألم يتحمل هؤلاء المنتفضين عبء ومسؤولية حماية قرى منطقة نفزاوة من غارات السريات الفرنسية أيام الحضور المحوري.

- ذكرت كل المصادر بما في ذلك الفرنسية ان ممارسات المنتفضين خلال هذه الانتفاضة لم تكن "قاسية" و"دموية" تجاه أسراهم من المخازنية و"القومية" وحتى الضباط الفرنسيين فعادة ما يكتفون برفع الغنائم (أسلحة، ذخيرة، مؤن...) في حين يقومون بإطلاق سراح الأسرى وهذا ما لم يفعله المعسكر الفرنسي.

- عدم تعرّض المنتفضين إلى الجالية اليهودية المتواجدة بقرية دوز بل على العكس من ذلك فقد تصدوا "للسوقة" و"الأشرار" الذين أرادوا المساس بهم خصوصا ليلة الهجمة على البرج (فجر يوم 28 ماي 1944).

تقودنا جميع هذه الملاحظات إلى الإقرار بأن هؤلاء المنتفضين لم يكونوا أشرارا و"سوقة" و"قطاع طرق" و"لصوص" و"جياشة" ولم يكن العنف هدفهم كما أوردت ذلك المصادر الفرنسية بل كانوا شرفاء وثوار ومجاهدون يدافعون عن العرض والشرف والقيم وذويهم. ولم يكن نشاطهم خروجا عن نواميس المجتمع الذين هم جزء منه وإليه بل كان خروجا عن قوانين وأنظمة ظلم دهاقنة المستعمر. وإذا كان هذا الأخير يصف هؤلاء المنتفضين "بالفلاقة" فإن ذلك يشرفهم ولا يستنقض من شأنهم. وليس أدل على هذا سوى استعمال هذه اللفظة بكل أريحية من طرف بعض أهالي قرية العوينة الذين تفضلوا بمدي بشهاداتهم الشفوية خلال فترة إعدادي لهذا العمل. ومن بين هؤلاء الأهالي الذين حاورتهم بعض ثوار هذه الانتفاضة. وليس هناك غرابة في ذلك طالما أن لفظة "فلاق" أو فلاقة التي تشير إلى رجال المقاومة المسلحة في الأرياف والبوادي التونسية لم تبتدع من طرف المستعمر[8] . "إننا لا نفتري على الحقيقة التاريخية عندما نؤكد أن مدلول هذه الكلمة في بدايات استعمالها، كان غير المدلول الذي استغلّه المستعمر فيما بعد ووظفته بعض الكتابات المتأثرة بطروحاته في مرحلة لاحقة. إن لفظة فلاق وفلاقة لم تتلبس حين ظهورها بمعان حافة تهجينية أو انتقاصية بل على العكس من ذلك تماما إذ كانت تحيل على معاني الشجاعة والبأس والإباء وعلو الهمة ورفض كل أشكال القهر والظلم. والمعطيات التالية توضح ذلك بصفة ملموسة :

في حدود عام 1925 نظم أبو بكر غرس الله (شهر ابن قطنش) قصيدة تحدث فيها عن انضمامه لحركة المقاومة بالمنطقة الحدودية الجنوبية الشرقية (بعد فراره من الفرقة الصحراوية المعروفة بسلك "القومية"، والتحاقه برجال المقاومة) ومما جاء في هذه القصيدة قوله :

منين كنت في الفلاقة منين كنت نقدع في الغدايد جاقة

أنا ود قرتي ومعاي زوز رفاقه اولاد شنب كل واحد عبارة ميه

منين كنت في التربيعه منين كنت نشري في البلا وانبيعه

منين كنت عاللزرق نرد قليعه واحزام بالكرطوش لا يذبيه"[9]

ودائما وفي نفس الإطار نلاحظ ان الشعراء الشعبيين استعملوا لفظة فلاقة في غرض الفخريات. يقول الشاعر عبد الله بن علي بن عبد الله في السياق :

"الفلاقة داروا زغبية هافوا للميدان

مغاليل قلوبهم مملية على قوم العديان

رباط نساهم والذرية شي يغيب الأذهان"[10]

أما الشاعر ضو الأبيض فهو يقول في قصيدة يرثي فيها عبد الله الغول بعد القبض عليه واعدامه سنة 1950 :

"وينه زعيم الفلاقة اللي كان عالي ومسمى

عبد الله ومعاه رفاقه أولاد يداروا ع الذمة"[11]

من المعاني والدلالات التي تطفح بها المصادر الأهلية والتي لها صلة وثيقة بالنشاط المسلح لهؤلاء المنتفضين: الجهاد. فمن خلال رصدنا للمعاني الواردة في القصائد الشعبية نتبين أن مفهوم الجهاد له حضور مكثف في المدونة الشعرية التي أرخت لهذه الانتفاضة. يقول الشاعر عبد الله بن عبد العزيز في قصيدة يستعرض فيها أهم المواجهات بين الثوار والسريات الفرنسية:

"ملطم وقحار ما بين اسلام وكفار"[12]

ويقول في موضع آخر :

"محوس ولطام ما بين الكفرة والإسلام"[13]

وواضح من خلال البيتين أن المواجهة اتخذت بعدا دينيا كيف لا والمسلمون (الثوّار) يواجهون الكفار (القوات الفرنسية). ونستشف من خلال نفس القصيدة أن نشاط هؤلاء الثوار موجه بالأساس ضد الفرنسيين أعداء الدين والوطن ولنستمع إلى نفس الشاعر يقول :

"موش ظلامين يتبروا من المسلمين

قالوا عارفين ناس ال جونا مغصوبين

هومه قاصدين كان الكفرة والخاينين

جيش الكافرين من عند الله مهزومين"[14]

وتبقى معركة برج دوز فجر يوم 28 ماي 1944 أبرز مثال على حضور البعد الجهادي في تصادم الثوار برموز الهيمنة الفرنسية. حيث تخبرنا المصادر الأهلية ان الثوار صلوا صلاة الفجر في زاوية سيدي عمر المحجوب الولي الصالج جد قرية العوينة قبل المواجهة . وفي هذا يقول الشاعر عبد الله بن علي بن عبد الله :

بات حامد يطحن في غله اطوال الليل عليه

حتى بان الفجر تجلى صوب نادى بيه

زار جده المحجوب وصّله وطالب ما شاهيه"[15]

ويحيلنا البيت الأخير على المرجعية الدينية لهؤلاء الثوار فهم ينتمون إلى قبيلة مرابطة "يستمدون منزلتهم الإجتماعية الخاصة بهم من تدينهم الشديد وتمسكهم بالأخلاق الفاضلة..."[16] من بين المؤشرات الأخرى التي تحيلنا على الجانب الجهادي في ذهنية هؤلاء المنتفضين صيحات التكبير التي تعالت بها أصوات الثوار أثناء خوضهم لمعركة البرج فجر 28 ماي 1943. فهم يعلنون عن انطلاق المعركة "بأصواتهم المدوية : - الله أكبر ، الجهاد في سبيل الله"[17]

ثم ينادي يحي بن محمد بن يحي معلنا عن انتصار الثوار وسيطرتهم التامة على البرج بقوله : - "الله أكبر لقد انتصرنا"[18]

هكذا وانطلاقا من جميع هذه المؤشرات التي تطفح بها المصادر الأهلية، نستنتج أن المرجعية الفكرية لمقاومي المرازيق خلال هذه الانتفاضة هي مرجعية تتميز بهيمنة الفكر الديني أي البعد الجهادي وليس البعد السياسي الوطني. وهكذا فإنتفاضة المرازيق (1943-1944) تنتمي إلى الجيل الأول من الانتفاضات الجماعية أي تلك الهبات "القبلية" التي تكون ركيزتها المادية الأرض (الانتماء إلى حيز "القبيلة") ومرجعها الفكر الديني ومحركها العلاقات الدموية. ويمكن في هذا السياق أن ندرك إلى حد ما سبب اقتران الانتفاضات المسلحة التي اندلعت قبل الحرب العالمية الثانية بأسماء مجموعات "قبلية" من ذلك مثلا انتفاضة الفراشيش سنة 1906، إنتفاضة أولاد بالواعر في النفيضة ضد الشركة الإفريقية، إنتفاضة الودارنة سنة 1915، إنتفاضة المرازيق 1943-1944... وبخصوص هذه الإنتفاضة الأخيرة نطرح السؤال التالي: لماذا إنتفاضة المرازيق بالذات ؟


[1] - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة... مرجع سابق، ص ص 19-20.

[2] - راجع بخصوص هذه اللفظة : تقرير حول احتلال دوز من طرف قوات المحور...، مصدر سابق، ورقة غير مرقمة.

تقرير الرائد قاي (GAY) حول احتلال نفزاوة من طرف قوات المحور...، المصدر نفسه، ورقة غير مرقمة.

[3]- Ibid, p.139

[4] - Ibid

[5] - Ibid

[6] - Ibid

[7] - راجع في هذا الصدد كتاب "ثورة المرازيق 1943" لمحمد وعلي المرزوقي.

- يصف بعض الأهالي الذين مدونا بشهاداتهم الشفوية هؤلاء المنتفضين : "بالمجاهدين" و"الثوار" وأحيانا "فلاقة".

[8] - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة... مرجع سابق، ص 19.

[9] - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة... مرجع سابق، ص 21.

[10] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه،، ص 180.

[11] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه،، ص.213.

[12] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه،، ص.193

[13] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه،، ص.194.

[14] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه،، ص.191.

هو حامد بن عمر بن عبد الملك أحد أبطال وشهداء معركة البرج 28/5/1944

[15] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه، ص179

[16] - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة...المرجع نفسه، ص. 49

[17] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه، ص. 88.

[18] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه، الصفحة ذاتها.


ليست هناك تعليقات: