الجمعة، 30 ماي 2008

معركة برج دوز 29/05/1944 : تمرد "نظاميين" أم هبّة "قبلية" ؟ج3

الجزء الثالث

- انتفاضة المرازيق 1943-1944 : لماذا المرازيق بالذات ؟

نشير في البداية إلى أن الانتفاضة التي عرفتها منطقة نفزاوة خلال سنتي 1943-1944 قد شهدت مشاركة بعض العناصر الجزائرية والليبية المساندة للثوار[1] ويمكن أن نفسر مشاركة هذه العناصر في الإنتفاضة المذكورة بأهمية العلاقات والروابط التي تجمع أهالي الجنوب التونسي بالمهاجرين الليبيين والجزائريين في هذه الربوع. فبخصوص الجالية الجزائرية نشير هنا إلى تواجد ربائعية واد سوف بمنطقة نفزاوة حيث كانوا يمتهنون مهنة رعي الإبل. ولم يتردد هؤلاء الربائعية في معاضدة إخوانهم المرازيق إبان انتفاضتهم سنتي 1943-1944 ضد الحضور الإستعماري. وربما لم ينس أهالي واد سوف الحماية التي وفرها الشيخ محمد بن عبد الله شهر "الشرع" لقتلة العربي المملوك إبان ثورة المقراني ضد الفرنسيين (سبعينات القرن التاسع عشر). ومن الجزائريين الذين برزوا خلال إنتفاضة المرازيق (1943-1944) نذكر الثائر أحمد بن ناجي الربعي[2]. أما بخصوص مشاركة عناصر من الليبيين في هذه الإنتفاضة فيمكن تفسير ذلك أيضا بأهمية العلاقات التي تربط بين الطرفين منذ الحرب الطرابلسية – الإيطالية سنتي 1911-1912 . تلك الحرب التي سجلت مشاركة التونسيين بأعداد كبيرة وخصوصا أهالي الجنوب التونسي من بينهم بعض المرازيق[3] وكانت انتفاضة خليفة بن عسكر النالوتي والتحامه بالودارنة منذ سنة 1915 ضد الاحتلال الإيطالي بطرابلس والفرنسي بتونس فرصة أخرى لبعض عروش نفزاوة ومن بينهم المرازيق للمشاركة إلى جانب إخوانهم في الدين[4]. وكانت انتفاضة المرازيق (1943-1944) فرصة للطرابلسيين لرد الجميل إلى مناصري الأمس ولن يكون ذلك إلا برفع السلاح إلى جانبهم ضد القمع الديغولي الذي عقب انسحاب قوات المحور من منطقة نفزاوة من يوم 23 مارس 1943. وهكذا أكدت هذه الانتفاضة وغيرها من الحركات المسلحة التي سبقتها إنتماء الطرفين "لنفس المنظومة الفكرية التي ترفض الإستعمار وتذود عن حياض الوطن والأمة الإسلامية..."[5]"توحدّ الطرابلسية وأهالي الجنوب التونسي "أمام محنة التجربة"[6].

أما بخصوص مشاركة عروش الجنوب التونسي فإنه يمكن القول أنه وباستثناء عذارى الصابرية وثائرا وحيدا من قرية تامزرط التابعة إداريا لدائرة مطماطة وهو حمد بن يخلف التامزرطي[7] أن بقية عروش الجنوب وخصوصا بقية عروش نفزاوة لم تشارك في هذه الإنتفاضة التي أعلنها المرازيق. ويمكن أن نتساءل لماذا "تنكّر" أهالي الودارنة "لجميل" المرازيق ونعني بذلك مساعدتهم بالسلاح خلال انتفاضتهم التي جدت سنتي 1915-1916. وهذا ما يقودنا إلى طرح السؤال التالي لماذا المرازيق بالذات ؟ هل لأنهم وحدهم كانوا يعانون من صلف الإدارة الاستعمارية ؟ هل نجح الاستعمار الفرنسي في "كسر" اللحمة" التي كانت تجمع بين عروش الجنوب التونسي وخصوصا منطقة "التراب العسكري" ؟ للإجابة على هذه الأسئلة يمكن أن نستعين بالنقاط التالية : عملت الإدارة الإستعمارية بمنطقة التراب العسكري وخصوصا منذ إخمادها لإنتفاضة الودارنة على تطويع قبائل الجنوب التونسي وخصوصا القوية منها كورغمة ويبدو أنها نجحت في ذلك منذ 1918. وهذا ما يفسر عدم "تضامن" أهالي ورغمة مع المرازيق مناصري الأمس خلال انتفاضهم هذه. أما بخصوص اقتصار هذه الانتفاضة على المرازيق مع "دعم محدود" من عذارى الصابرية فيمكن أن نفهم ذلك في إطار العلاقة القائمة بين قبيلة المرازيق والإدارة الاستعمارية منذ 1881. حيث ألزم المستعمر المرازيق بدفع ضريبة المجبى التي كانوا معفيين منها[8] وهذا ما ولدّ "غضب هؤلاء المرازيق وقد عبروا عن ذلك في عديد من المناسبات كما بينا سابقا. أما السبب الثاني الذي يمكن أن نفسر به "عزلة" المرازيق خلال هذه الانتفاضة فهو يتعلق بطبيعة هذه الإنتفاضة التي بدأت في إطار تمرد نظاميين انتموا جميعهم إلى المرازيق بإستثناء علي جلاوط العذري الذي ينتمي إلى قرية الصابرية تم تحول ذلك التمرد النظامي إلى هبّة "قبيلة" فلو تمرد بعض المخازنية "والقومية" الذين ينتمون إلى مناطق أخرى من الجنوب لكان من المحتمل أن يكونوا هم أيضا وراء اندلاع هبات"قبلية" في مناطقهم. والسؤال المطروح هنا هل كانت ستندلع تلك الهبة "القبلية" في منطقة نفزاوة لو لم يكن ذلك التمرد النظامي ؟

آخر ملاحظة يمكن أن نسوقها بخصوص هذه الانتفاضة والتي لا تقل أهمية عن الملاحظات السابقة : هل شاركت جميع عروش المرازيق (مرازيق دوز الغربي، مرازيق دوز الشرقي، مرازيق العوينة) في هذه الإنتفاضة ؟ نشير أولا وقبل الإجابة على هذا السؤال إلى أن قبيلة المرازيق تنقسم إلى ثلاثة عروش هم : مرازيق دوز الغربي ومرازيق دوز الشرقي الذين ينتسبون إلى الجد الولي الصالح سيدي أحمد الغوث[9] ومرازيق العوينة الذين ينتسبون إلى الجد الولي الصالح سيدي عمر المحجوب[10]. وقد عملت الإدارة الاستعمارية على إخضاع هذه القبيلة في مرحلة أولى وذلك بفرض ضريبة المجبي عليها منذ بدايات الاحتلال وإضعافها في مرحلة ثانية وذلك من خلال سياسة 'فرّق تسد" حيث عمل المستعمر على إحداث القطيعة والحساسيات بين مختلف عروش هذه المجموعة. فمنذ إحداث خلافة المرازيق سنة 1896 وحتى سنة 1941، كان الخليفة يعين من قرية دوز الغربي. وحسبنا هنا أن نذكر بلقاسم بن بوبكر بن راشد (مارس 1896- 2 أوت 1932) وابنه أحمد بن بلقاسم بن راشد (2 أوت 1932 – 1 أكتوبر 1941) وقد خلق هذا التمييز أو قل هذه المحاباة قطيعة بين مرازيق العوينة والإدارة الاستعمارية وهذا ما يفسر مشاركة العديد من عناصر هذا العرش في كل المحطات المسلحة سواء خارج الحدود أو داخلها : الحرب الإيطالية الطرابلسية( 1911-1912) ، انتفاضة الودارنة (1915-1916)، متمردو فترة العشرينات الذين عبر عنهم الأستاذ فتحي ليسير "بالصعاليك الشرفاء" وأخيرا انتفاضتهم سنة 1943-1944 وهكذا فهذه الانتفاضة هي امتداد وتواصل لحركة الرفض والقطيعة تجاه الإدارة الاستعمارية منذ سنة 1881. أيضا، خلقت هذه السياسة الاستعمارية بعض الحساسيات بين عروش المرازيق. ومن خلال الوثائق الفرنسية يتوزع ثوار هذه الانتفاضة كما يلي : عناصر ليبية وهم في حدود عنصرين، جزائريون وهم ثلاثة من ضمنهم أحمد بن ناجي الربعي و4 ثوار من عذارى الصابرية و2 من دوز الشرقي وثائر من تامزرط والبقية وهم الأغلبية ينتمون إلى قرية العوينة في حين لا نجد ضمن هؤلاء الثوار من ينتمي إلى قرية دوز الغربي.

وبناء على هذه المعطيات يمكن القول أن هذه الانتفاضة تكاد تقتصر على مرازيق العوينة. ومن ثم يمكن القول أن عدة عوامل وجهت هذه الانتفاضة والتي تتمحور جميعها حول طبيعة الممارسة الاستعمارية في منطقة نفزاوة تلك الممارسات التي خلقت تناقضات حادة بين عروش "القبيلة" الواحدة مثلما هو الشأن بالنسبة للمرازيق. حيث قام المستعمر بكسب ولاء البعض في مقابل قطيعة مع البعض الآخر. ومن ثم لا يمكن فهم طبيعة هذه الانتفاضة إلا في إطار هذا التمفصل. وهذا ما يذكرنا تقريبا بإنتفاضة الودارنة( 1915-1916) والتي كانت في جانب منها ردة فعل تجاه السياسة الاستعمارية التي سعت إلى كسر شوكة الودارنة من خلال تقريب الجبالية و"تحريضهم" ضد أسيادهم القدامى. وهذا ما يقودنا إلى القول أن سياسة التناقضات التي خلقتها الإدارة الاستعمارية في منطقة "التراب العسكري" كانت سببا من أسباب "إنهيار" "السلم الفرنسية" (la paix française) في هذه الربوع.

إضافة إلى "عزلة" هذه الانتفاضة تجاه محيطها "العروشي" فقد عرفت "العزلة" أيضا تجاه العمل السياسي الوطني خلال هذه الفترة.


[1] - تقرير حول حالة التمرد والعصيان بأقصى الجنوب التونسي (م.أ.ت.ح.و)، أ.و.ش.خ.، بكرة P3، ص.867، و109.

[2] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه، ص.113.

[3] - علية الصغير (عميرة)، المرجع نفسه، ص 216.

[4]- علية الصغير (عميرة)،المرجع نفسه، الصفحة ذاتها.

- ضيف الله (محمد)، المرجع نفسه، ص ص 529-530.

[5] - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة...المرجع نفسه، ص.71

[6] - ليسير (فتحي)، من الصعلكة الشريفة...المرجع نفسه، ص 94.

[7] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه ، ص 112.

[8] - علية الصغير (عميرة)، المرجع نفسه، ص 214.

[9] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه، ص 10.

[10] - المرزوقي (محمد) و(علي) : ثورة...المصدر نفسه، الصفحة ذاتها.

------------------
يمكن الاطلاع على البحث على الرابط التالي

ليست هناك تعليقات: